الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم سقطت كما قال بعضهم لأنها بعد سقوطها لا تعود إلا بسبب جديد كذا في البدائع، وذكر ابن نجيم في (البحر) عن التنقيح أن سبب الكفارة ما نسيت إليه من أمر دائر بين الحظر والإباحة، ثم قال: إن كون كفارة الظهار كذلك على قول من جعل السبب مركبًا من الظهار والعود ظاهر لكون الظهار محظورًا والعود مباحًا لكونه إمساكًا بالمعروف ونقضًا للزور.وأما على القول بأن المضاف إليه وهو الظهار سبب وهو قول الأصوليين فكونه دائرًا بين الحظر والإباحة مع أنه منكر من القول وزور باعتبار أن التشبيه يحتمل أن يكون للكرامة فلم يتمحض كونه جناية، واستظهر بعد أنه لا ثمرة للاختلاف في سببها معللًا بأنهم اتفقوا على أنه لو عجلها بعد الظهار قبل العود جاز ولو كرر الظهار تكررت الكفارة وإن لم يتكرر العزم، ولو عزم ثم ترك فلا وجوب، ولو عزم ثم أبانها سقطت ولو عجلها قبل الظهار لم يصح، ثم إنه لا استحالة في جعل المعصية سببًا للعبادة التي حكمها أن تكفر المعصية وتذهب السيئة خصوصًا إذا صار معنى الزجر فيها مقصودًا وإنما المحال أن تجعل سببًا للعبادة الموصولة إلى الجنة انتهى، ولا يخلو عن حسن ما عدا توجيه كون الظهار دائرًا بين الحظر والإباحة فإنه كما ترى.وفسر بعضهم العود بالرجوع واللام بعن كما نقل عن الفراء أي ثم يرجعون عما قالوا: فيريدون الوطء، قال الزيلعي: وهذا تأويل حسن لأن الظهار موجبه التحريم المؤبد فإذا قصد وطأه وعزم عليه فقد رجع عما قال، ولا يخفى أن جعل اللام بمعنى عن خلاف الظاهر، وقيل: العود الرجوع، والمراد بما قالوا ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار وهو التماس تنزيلًا للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا يَقول} [مريم: 80] والمعنى ثم يريدون العود للتماس، وفيه تجوزان، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى {ثُمَّ يَعُودُونَ} ثم يندمون ويتوبون أي يعزمون على التوبة، كأنه حمل العود على التدارك والتائب متدارك لما صدر عنه بالتوبة.واعترض بأنه يقتضي أنه إذا لم يندم لا تلزمه الكفارة وإذا جعلت الكفارة نفس التوبة فأين معنى العود؟ وأيضًا لا معنى لقول القائل ثم يعزمون على الكفارة {فَتَحْرِيرُ} الخ، والعود عند الشافعية يتحقق في غير مؤقت ورجعية بأن يمسكها على الزوجية ولو جهلًا ونحوه بعد فراغ ظهاره ولو مكررًا للتأكيد وبعد علمه بوجود الصفة في المعلق وإن نسي أو جنّ وجودها زمن إمكان فرقة شرعًا فلا عود في نحو حائض إلا بالإمساك بعد انقطاع دمها لأن تشبيهها بالمحرم يقتضي فراقها فبعدم فعله صار ناقضًا له متداركًا لما قال، فلو اتصل بلفظ الظهار فرقة بموت أو فسخ أو انفساخ بنحو ردة قبل وطء أو طلاق بائن أو رجعي، ولم يراجع أو جن أو أغمي عليه عقب اللفظ ولم يمسكها بعد الإفاقة فلا عود للفرقة أو تعذرها أولا عنها في الأصح بشرط سبق القذف، والرفع للقاضي ظهاره في الأصح ولو راجع من ظاهر منها رجعية أو من طلقها رجعيًا عقب الظهار أو ارتد متصلًا وهي موطوءة ثم أسلم، فالمذهب أنه عائد بالرجعة لأن المقصود بها استباحة الوطء لا بالإسلام لأن المقصود به العود للدين الحق والاستباحة أمر يترتب عليه إلا إذا أمسكها بعده زمنًا يسع الفرقة، وفي الظهار المؤقت الواقع كما التزم على الصحيح لخبر صحيح فيه الأصح أن العود لا يحصل بإمساك بل بوطء مشتمل على تغييب الحشفة أو قدرها من مقطوعها في المدة للخبر أيضًا ولأن الحل منتظر بعدها، فالإمساك يحتمل كونه لانتظاره أو للوطء فيها فلم يتحقق الإمساك لأجل الوطء إلا بالوطء فيها فكان المحصل للعود.واعترض ما قالوه بأن {ثُمَّ} تدل على التراخي الزماني.والإمساك المذكور معقب لا متراخ فلا يعطف بثم بل بالفاء، ورد بأن مدة الإمساك ممتدة، ومثله يجوز فيه العطف بثم والعطف بالفاء باعتبار ابتدائه وانتهائه، وعلى هذا لا حاجة إلى القول بأنها للدلالة على أن العود أشد تبعة وأقوى إثمًا من نفس الظهار حتى يقال عليه: إنه غير مسلم، ولا إلى قول الإمام أن مشترك الإلزام بين الشافعية والحنفية القائلين: بأن العود استباحة الاستمتاع فيمنع أيضًا لأن الاستباحة المذكورة عقب الظهار قولا نادرة فلا يتوجه ذلك على الحنفية.واعترض أيضًا بأن الظهار لم يوجب تحريم العقد حتى يكون العود إمساكها، ومن تعليل الشافعية السابق يعلم ما فيه، وفي التفريع لابن الجلاب المالكي أنه روى عن الإمام مالك في المراد بالعود روايتان: إحداهما أنه العزم على إمساكها بعد الظهار منها، والرواية الأخرى أنه العزم على وطئها، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: العود في إحدى الروايتين عن مالك هو الوطء نفسه، والصحيح عندي ما قدمته انتهى من مدونه.وابن حجر نسب القول: بأنه العزم على الوطء إلى الإمام مالك.والإمام أحمد، والقول: بأنه الوطء نفسه إلى الإمام أبي حنيفة، وذكر أنهما قولان للإمام الشافعي في القديم، وما حكاه عن الإمام أبي حنيفة لم يحكه عنه فيما نعلم أحد من أصحابه، وحكاه الزيلعي عن الإمام مالك، ولم يحك عنه غيره، وحكاه أبو حيان في البحر عن الحسن وقتادة وطاوس والزهري وجماعة، وأفاد أنه إحدى روايتين عن مالك، وثانيتهما أنه العزم على الإمساك والوطء.واعترض القول به ممن كان وكذا القول: بأنه العزم على الوطء بأن الآية لما نزلت، وأمر صلى الله عليه وسلم المظاهر بالكفارة لم يسأله هل وطئ أو عزم على الوطء؟ والأصل عدم ذلك، والوقائع القولية كهذه يعممها الاحتمال، وأنها ناصة على وجوب الكفارة قبل الوطء فيكون العود سابقًا عليه، فكيف يكون هو الوطء؟ا وأجاب القائل: بأنه العزم على الوطء عن ترك السؤال بأن ذلك لعلمه عليه الصلاة والسلام به من خولة.فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال: حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت: فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل الله تعالى صدر سورة المجادلة كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه فدخل علي يومًا فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت علي كظهر أمي، ثم رجع فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قلت: كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل إلى وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فينا، ثم جئت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فذكرت له ذلك فما برحت حتى نزل القرآن الخبر، فإن ظاهر قولها: فذكرت له ذلك أنها ذكرت كل ما وقع، ومنه طلب أوس وطأها المكنى عنه بيريدني عن نفسي، وذكر ذلك له عليه الصلاة والسلام أهم لها من ذكرها إياه ليوسف بن عبد الله بن سلام.وأجيب من جهة القائل: بأنه الوطء عن الأخير بأن المراد من الآية عند ذلك القائل من قبل أن يباح التماس شرعًا، والوطء أولًا حرام موجب للتكفير وهو كما ترى ونقل عن الثوري.ومجاهد أن معنى الآية والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام، ثم يعودون لمثله فكفارة من عاد أن يحرر رقبة ثم يماس المظاهر منها، فحملا العود والقول على حقيقتهما، وفي اعتبار العادة دلالة على أن العدول إلى المضارع في الآية للاستمرار فيما مضى وقتًا فوقتًا، وأخذ القطع من دلالة {ثُمَّ} على التراخي؛ وليصح على وجه لا يلزم تعليق وجوب الكفارة بتكرار لفظ الظهار كما سيأتي إن شاء الله تعالى حكايته.وتعقب ذلك بأن فيه أن الاستمرار ينافي القطع، ثم إنهم ما كانوا قطعوه بالإسلام لأن الشرع لم يكن ورد بعد بتحريمه، وظاهر النظم الجليل أنه مظاهرة بعد الإسلام لأنه مسوق لبيان حكمه فيه، وعليه ينطبق سبب النزول وهو يقتضي أن يكون مجرد الظهار من غير عود موجبًا للكفارة، وهو خلاف ما عليه علماء الأمصار؛ وأجيب عن هذا الأخير بأنهما إن نقل عنهما ذلك اجتهادًا فلا يلزمهما موافقة غيرهما وهو المصرح به في كتاب (الأحكام).وغيره، وإن لم ينقل عنهما غير تفسير العود في الآية بما أشير إليه، فيجوز أن يشترطا لوجوب الكفارة شيئًا مما مر لكن لا يقولان: إنه المراد بالعود فيها، وقال أهل الظاهر: المعنى الذين يقولون هذا القول المنكر ثم يعودون له فيكررونه بأن يقول أحدهم: أنت علي كظهر أمي ثم يعود له ويقوله ثانيًا فكفارته تحرير رقبة إلخ فحملوا العود والقول على حقيقتهما أيضًا.وروي ذلك عن أبي العالية وبكير بن عبد الله بن الأشج والفراء أيضًا، وحكاه أبو حيان رواية عن الإمام أبي حنيفة، ولا نعلم أحدًا من أصحابه رواه عنه، وتعقب بأنه لو أريد ذلك لقيل: يعودون له فإنه أخصر ولا يبقى لكلمة {ثُمَّ} حسن موقع، هذا ولا فقه فيه من حيث المعنى، والمنزل فيه أعني قصة خولة يدفعه إذ لم ينقل التكرار، ولا سأل عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا الدفع قوي، وأما ما قيل: فقد أجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون الفقه فيه أنه ليس صريحًا في التحريم فلعله يسبق لفظه به من غير قصد لمعناه، فإذا كرره تعين أنه قصده وأن العدول عن له إلى {لِمَا قالواْ} لقصد التأكيد بالإظهار، وأن العطف بثم لتراخي رتبة الثاني وبعده عن الأول لأنه الذي تحقق به الظهار، وقول الزيلعي في الاعتراض عليه: إن اللفظ لا يحتمله لأنه لو أريد ذلك لقيل: يعيدون القول الأول بضم الياء وكسر العين من الإعادة لا من العود جهل ناشئ من قلة العود لكلام الفصحاء والرجوع إلى محاوراتهم، وقال أبو مسلم الأصفهاني: معنى العود أن يحلف أولًا على ما قال من الظهار بأن يقول: والله أنت علي كظهر أمي وهو عود لما قال وتكرار له معنى لأن القسم لكونه مؤكدًا للمقسم عليه يفيد ذلك فلا تلزم الكفارة في الظهار من غير قسم عنده، وهذا القول إلغاء للظهار معنى لأن الكفارة لحلفه على أمر كذب فيه، وأيضًا المنزل فيه يدفعه إذ لم ينقل الحلف ولا سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصل عدمه، وقيل: عوده تكراره الظهار معنى بأن يقول: أنت عليّ كظهر أمي إن فعلت كذا ثم يفعله فإنه يحنث وتلزمه الكفارة، وتعد مباشرته ذلك تكريرًا للظهار وليس بشيء كما لا يخفى، وأما تعليق الظهار فقد ذكر الشافعية أنه يصح لأنه لاقتضاء التحريم كالطلاق والكفارة كاليمين وكلاهما يصح تعليقه، فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت عليّ كظهر أمي فدخلت ولو في حال جنونه أو نسيانه صح لكن لا عود عندهم في الصورة المفروضة حتى يمسكها عقب الإفاقة.أو تذكره وعلمه بوجود الصفة قدر إمكان طلاقها ولم يطلقها، وقد أطالوا في تفاريع التعليق الكلام بما لا يسعه هذا المقام.وعندنا أيضًا يصح تعليقه وكذا تقييده بيوم أو شهر، ولا يبقى بعد مضي المدة، نعم لو ظاهر واستثنى يوم الجمعة مثلًا لم يجز ولو علق الظهار بشرط ثم أبانها ثم وجد الشرط في العدة لا يصير مظاهرًا بخلاف الإبانة المعلقة كما بين في محله، وقال الأخفش: في الآية تقديم وتأخير وتقديرها والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا: ثم يعودون إلى نسائهم ولا يذهب إليه إلا أخفش أو أعشى أو أعمش، وفي قوله تعالى: {مِن نّسَائِهِمْ} دليل لنا وكذا للشافعي وأحمد وجمع كثير من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عليهم أجمعين على أنه لو ظاهر من أمته الموطوأة أو غيرها لا يصح، وبيان ذلك أنه يتناول نساءنا والأمة، وإن صح إطلاق لفظ نسائنا عليها لغة لكن صحة الإطلاق لا تستلزم الحقيقة لأن حقيقة إضافة النساء إلى رجل أو رجال إنما تتحقق مع الزوجات دون الإماء لأنه المتبادر حتى يصح أن يقال: هؤلاء جواريه لا نساؤه، وحرمة بنت الأمة ليس لأن أمها من نسائنا مرادة بالنص بل لأنها موطوءة وطءًا حلالًا عند الجمهور، وبلا هذا القيد عندنا على أنه لو أريد بالنساء هناك ما تصح به الإضافة حتى يشمل المعنى الحقيقي وهن الزوجات.والمجازي أعني الإماء بعموم المجاز لأمكن للاتفاق على ثبوت ذلك الحكم في الإماء كثبوته في الزوجات أما هنا فلا اتفاق ولا لزوم عندنا أيضًا ليثبت بطريق الدلالة لأن الإمام لسن في معنى الزوجات لأن الحل فيهن تابع غير مقصود من العقد ولا من الملك حتى يثبتا مع عدمه في الأمة المجوسية والمراضعة بخلاف عقد النكاح لا يصح في موضع لا يحتمل الحل، واستدل أيضًا بأن القياس شأنه أن لا يوجب هذا التشبيه الذي في الظهار سوى التوبة، وورد الشرع بثبوت التحريم فيه في حق من لها حق الاستمتاع ولا حق للأمة فيه فيبقى في حقها على أصل القياس، وبأن الظهار كان طلاقًا فنقل عنه إلى تحريم مغيًا بالكفارة ولا طلاق في الأمة، وهذا ليس بشيء للمتأمّل.
|